الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقال: «يعتق رقبة».قالت: لا يجد.قال: «فيصوم شهرين متتابعين».قالت: إنه شيخ كبير ما بِه من صيام.قال: «فليطعم ستين مسكينًا».قالت: ما عنده شيء يتصدق به.فأُتي ساعتئذٍ بعَرَق من تمر قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرَق آخر.قال: «قد أحسنتتِ اذهبي فأَطعمي بهما عنه ستّين مسكينًا وارجعي إلى ابننِ عمّك».قال أبو داود في هذا: إنها كفرت عنه من غير أن تستأمره.والمراد {لما قالوا} ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حَرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ: أنتِ عليّ كظهر أمي، لأن: أنت عليّ في معنى: قربانك ونحوه عليّ كمِثله من ظهر أمي.ومنه قوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80]، أي مالًا وولدًا في قوله تعالى: {وقال لأوتين مالًا وولدًا} [مريم: 77]، وقوله: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم} [آل عمران: 183] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار.ففعل القول في هذا وأمثاله ناصبُ لمفرد لوقوعه في خلاف جملة مقولة، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحْريم له.فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به.فالمعنى: ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم.وفهم من قوله: {ثم يعودون لما قالوا} أن من لم يُرِد العود إلى امرأته لا يخلو حالهُ: فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع علَيها طلاقًا آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقًا، وإما أن لا يريد طلاقًا ولا عودًا.فهذا قد صار ممتنعًا من معاشرة زوجه مضِرًّا بها فله حكم الإِيلاء الذي في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة: 226] الآية.وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بن صخر البياضي.ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال: «كنت امرأ أُصِيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا يُتايع بي (بتحتية في أوله مضمومة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية، والظاهر أنها مكسورة. والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله: بي. زائدة للتأكيد) حتى أُصبح، فظاهرتُ منها حتى ينسلخ شهر رمضان».الحديث.واللام في قوله: {لما قالوا} بمعنى (إلى) كقوله تعالى: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5] ونظيره قوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28].وأحسب أن أصل اللام هو التعليل، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو:{بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5]، وما يقع فيه حرف (إلى) من ذلك مجاز بتنزيل من يُفعل الفعل لأجله منزلةَ من يجيء الجائي إليه، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العَوْد فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجّز أو تضمينٍ يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} [الرعد: 2]، أي جَرْيُه المستمر لقصده أجلًا يبلغه.ومنه قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية.وفي (الكشاف) في قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} في سورة [الزمر: 5] أنه ليس مثل قوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} في سورة [لقمان: 29] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يَسلك هذه الطريقة إلا ضيّق العطن، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله: {إلى أجل} معناه يبلغه، وقوله: {لأجل} يريد لإِدراك أجل تجعل الجري مختصًا بالإِدراك. اهـ.فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم، فيصير متعلَّق فعل {يعودون} مقدّرًا يدل عليه الكلام، أي يعودون لما تركوه من العصمة، ويصير الفعل في معنى: يندَمون على الفراق.وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه، تحلةً لما قصده من التحريم، وتأديبًا له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع.وبهذا يكون محمل قوله: {من قبل أن يتماسا} على أنه من قبل أن يمسّ زوجه مسّ استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن، كما قال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237].ولذلك جعلت الكفارة عِتق رقبة لأنه يَفتدي بتلك الرقبة رقبةَ زوجه.وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله: {ذلكم توعظون به}.واسم الإِشارة في قوله: {ذلكم} عائد إلى تحرير رقبة.والوعظ: التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب، أي فرضُ الكفارة تنبيه لكم لتتفَادَوْا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار.ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسمّاها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في (جامع الترمذي) وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه ابن العربي في (الأحكام).فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهَر منها، أي ممنوع من علائق الزوجية، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتُب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التكفير لأنه سبب واحد فلا يضرّ تكرر مسببه، وإنما جعلت الكفارة زجرًا ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زنًا.وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة، وهو قول جمهور العلماء.وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين.وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه.وقوله: {والله بما تعملون خبير} تذييل لجملة {ذلكم توعظون به}، أي والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره.{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكّها عن فكّ عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حَليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة.وأعيد قيد {من قبل أن يتماسا} للدلالة على أنه لا يكون المسّ إلا بعد انقضاء الصيام، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كاففٍ في العود إلى الاستمتاع.{فمن لم يستطع}، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله له أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكينًا عوضًا عن الصيام فالإِطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكينًا ألم الجوع عوضًا عما كان التزمه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذّاته، وإنما حددت بستين مسكينًا إلحاقًا لهذا بكفارة فطر يوم من رمضان عمدًا بجامع أن كليهما كفارة عن صيام فكانت الكفارة متناسبة مع المكفر عنه مرتبة ترتيبًا مناسبًا.وقد أجمل مقدار الطعام في الآية اكتفاء بتسميته إطعامًا فيحمل على ما يقصده الناس من الطعام وهو الشبع الواحد كما هو المتعارف في فعل طعم.فحمله علماؤنا على ما به شبع الجائع فيقدر في كل قوم بحسب ما به شبع معتاد الجائعين.وعن مالك رحمه الله في ذلك روايتان، إحداهما: أنه مُدّ واحد لكل مسكين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم والثانية: أنه مُدَّان أو مَا يقرب من المدّين وهو مدّ بمدّ هشام (بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة) وقدرُه مدَّان إلا ثلثَ مدّ قال: قال أشهب: قلت لمالك: أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال: نعم الشبع عندنا مدّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر (أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة).وقوله هذا يقتضي أن يكون الإِطعام في المدينة مدًّا بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم مثل كفارة الفطر في رمضان فكيف جعله مالك مقدرًا بمدَّين أو بمُدّ وثلثين، وقال: لو أطعم مدًّا ونصفَ مدّ أجزأه.فتعين أن تضعيف المقدار في الإِطعام مراعىً فيه معنى العقوبة على ما صنع، وإلا فلا دليل عليه من نص ولا قياس.قال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمدّ هشام في كفارة الظهار تغليظًا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورًا فهذا مما ثبت بعمل أهل المدينة.وقدّر أبو حنيفة الشبع بمدّين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم فلعه راعى الشبع في معظم الأقطار غير المدينة، وقدّره الشافعي بمدّ واحد لكل مسكين قياسًا على ما ثبت في السنة في كفارة الإِفطار وكفارة اليمين.ولم يذكر مع الإِطعام قيدُ {من قبل أن يتماسا} اكتفاء بذكره مع تحرير الرقبة وصيام الشهرين ولأنه بدل عن الصيام ومجزَّأ لمثل أيام الصيام.هذا قول جمهور الفقهاء.وعن أبي حنيفة أن الإِطعام لا يشترط فيه وقوعه من قبل أن يتماسّا.ثم إن وقع المسيس قبل الكفارة أو قبل إتمامها لم يترتب على ذلك إلا أنه آثم إذ لا يمكن أن يترتب عليه أثر آخر، وهذا ما بيّنه حديث سلمة بن صخر الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع على امرأته بعد أن ظاهر منها، فأمره بأن لا يعود إلى مثل ذلك حتى يكفّر.وهذا قول جمهور الفقهاء، وقال مجاهد: عليه كفّارتان.وصريح الآية أن تتابع الصيام شرط في التكفير، وعليه فلو أفطر في خلاله دون عذر وجب عليه إعادته.ولا يمَسّ امرأته حتى يتم الشهران متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثِم ووجب عليه إعادة الشهرين.وقال الشافعي: إذا كان الوطء ليلًا لم يبطل التتابع لأن الليل ليس محلًا للصوم، وهذا هو الجاري على القياس وعلى مقتضى حديث سلمة بن صخر.وأما كون آثمًا بالمسيس قبل تمام الكفارة فمسألة أخرى، فمن العجب قول أبي بكر ابن العربي في كلام الشافعي أنه كلام من لم يذق طعم الفقه لأن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة فإنه وطء تعدَ فلابد من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء. اهـ.والمسكين: الشديد الفقر، وتقدّم في سورة براءة.والمظاهر إن كان قادرًا على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفّر انقلب ظهارُه إيلاءً.فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإِيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق.وإن كان عاجزًا عن خصال الكفارة كلها كان كالعاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر.
|